السبت، ٨ شعبان ١٤٣٢ هـ

بَائعةُ السُكَرِ



بين أعمدةِ الفلسفةِ و نوايا الفراقِ ، لا زلتُ أتذكرُ جيداً كم احتضنتُ قلبها في صَدري ، كانتْ صديقتي الغَالية سارة ..
في جبينها تزرعُ أُغنيات ناعمة ، ينْفضها العَندليب ، و يلتقطُ نضجَ التفاحةِ فيها ، و يحفرُ قناديلَ الحبِ ، و يوزعُ رائحة البنفسج و يتركُ لصوتِ حفيفها الصَدى ، و يدعمها بِالإرباكِ .
لا ينتزعُ من ذاكرتي ذَلك الشَهر الذي التقتُ فيهِ بسارة ..
كنا مع بعضنا في الكليةِ نَفسها ، لكن كلاً منا كان في قسمٍ مُخْتَلفٍ ، كان الأمرُ صعباً عليّ في البداية حيثُ تركتُ عائلتي الجَوهرية لكنني نسيتُ هذا بقربِ سارة ، كان قربها يُزكي رائحةََ الحياةِ و غناءَ الورد بِروحي .
بنزهةٍ ما خُرافية تبدلَ كل شيء
كان عليّ أن أقبلَ الدُخول إلى كوخِ بائعةِ السكرِ – طبعاً كان أقلَ من ذلك فشكله الخارجي يشبهُ إسطبلاتُ الخيلِ التي لم تنظفْ منذُ أعوامٍ و أعوام .
كانتْ تبيعُ السُكر و كَأنهُ شيءٌ مُقدَسٌ .
منهُ تصنعُ التماثيل ، و كل هذا بدا كَالسِحرِ ، سارة قُتلتْ من ذلك و دهشتْ و انبهرتْ ، أما أنا فدخلَ الشكُ حوافَ كمَنجتي فَسرتُ ذلك في بدايةِ الأمرِ بكرهي للسكر – أحبُ المِلح .
لكن يثر المكانُ رقصةَ اهْتمامي ؛ لأنني أخذتٌ أحللُ نظرات بائعةِ السكرِ المَعْتوهة ، كانَ بيْتها مليئاً بشوائبِ السكرِ ،
سكرٌ و سكرٌ و سكر ، و حتى وجهها كانتْ تلمع فيه بَعض الحَبات !
كانَ يبدو عليها خَبيثة تضعُ سماً في كلِ نظرةٍ للبشرِ ، بها تخدشُ روحهم و تعانق نقطة الشيطانِ لدى الناسِ بالقلبِ ،
وقفتُ في محطةِ شرودٍ كان فيها وجهها ، كانَ خبيثاَ ، مجعداً ، مليئاً بالحثالةِ ، و كأنها أعدمَتََْ للتو العديد منَ الأبرياءِ !
يداها سُكَرِيتان ، و أزرار بشرتِها تصعقُ السَكينةَ .
ثم بدتْ لي كأفضلِ ممثِلة حينما بدأتْ سارة تسألها بعض الأسئلةِ ، لا أتذكرها جيداً سوى أنها لا تتعلقْ إلا بحياتِها الشخصيةِ ، تحدثوا عن أشياءٍ تافهةَ بالنسبةِ لي .
لم يَنقص لبائعةِ السكرِ أنْ تَقول لسارة : " كم عدداً من ملاعقِ الصلصةِ تضَعين للمَعكرونةِ "
قلقتُ منْ اندماجِ سارة معها ، و من تلكَ النظراتِ الدراميةِ التي كانتْ ترتديها بائعةُ السكرِ .
كانتْ منقوعةَ في أقذَرِ الحفرِ ، و مدفونٌ بِداخلها تعويذاتِ القُبور الشَاقة ، كانتْ نظرات مُغَطية بِسقفٍ مُشوش .
خرجتُ من تَخَيلاتي ..
و صرختْ : " هل ستموتين هنا يا سارة ، لقد مللتُ ؟ "
بِنفسِ شدةِ الصوتِ أجابتْ عليّ : " إنني أتحثُ مع البائعة ، لماذا أنتِ غاضبة ؟ "
صحتْ : " و لماذا أنتِ مُندمجة ؟ "
غضبتْ سارة و أعطتْ المرأة النُقود و أخذََتْ ما أكره و خَرجنا ، هدأْتُ من عصبيتي و سألتُها :
" لماذا تحدثتِ مَعها تبدو شريرةً ، بل غبية ، إنها مجْنونة ، و بالطبعِ انْجَذبتِ بِالحَديثِ معَها "
قالتْ بحزمٍ و غضبٍ " لا تقولي عَنها شيئاً كهذا ، أفهمتِ ؟ ، ليسَتْ مُشكِلتي إذا كنتِ تفهمينَ الناسَ خَطأ "
قررتُ الصمتَ ؛ لأنني غضبتُ مما قالتهُ و من طريقةِ الدفاعِ عن تلك المَرأة .
ما لمْ أكنْ أعرِفهُ و عَرفتهُ بمَحضِ المُصَادفةِ هوَ أن سارة كانتْ تذهبُ إلى هُناك كلَ يَوم ، لمْ أُبالي بالأمرِ كثيراً خِشْيةَ موتَ صداقةٍ مُحْتَمَل .
كَان هُناك رمزُ تيهٍ مُهمش في المدينةِ بالشَائِعاتِ يقولُ :
" كلَ منْ أكلَ من سكرِ تلك البائعةِ ماتَ و تحولَ إلى سكر "
خفتُ منْ هَذا الكَلام و لولا إيمَانِي زَالَ الخَوفُ ، و لكنني قَرَرتُ التحدثَ معْ سارة حَولَ موضوعِ تلكَ المرأة في ليلةٍ ما ، و جاءَتْ هَذهِ الليلةِ ، كانَ الظلامُ يشقُ روحهُ و يغلقُ دربَ النَازحينَ إليهِ ، و كانَ في السماءِ نجماً قرْمزياً أشارَ لي حَدسي بأنهُ سَيُنزل لعنةَ أحدٍ عَلينا ، جاءَتْ سارة شاحبةً ، جَبينها كانَ قَدْ فَقَدَ كلَ مُمَيزاتهِ ، و كانَ خَلفَهَا ظلاً ليسَ لجَسَدِها ، يشعرُ بصداعِ الأبَديةِ ، و في زقاقِ وجهها تُرسمُ دَمعةً باكيةً ..
سَألتُها بِلَهفةٍ : " ما بكِ ؟ "
أجابَتْ : " سَأموتُ على يدِ بائعةِ السكرِ ، أُمِي "
صُعِقْتُ ، نفضتُ سوادَ الرؤيةِ عن عَيني و رددتُ بخوفٍ و بضَعفٍ لمْ أشْعُرْ بهما منْ قَبْل :
" هل تُصَدقينَ السحرةَ ؟! ، و هل قلتِ أمكِ ؟ ، أَجَل بصوتٍ لمْ أسمَعْ فيهِ كهذهِ الرَعشةَ منْ قَبْل :
" كانتْ أمِي و كنا عَائلةًَ ، و كانَ لنا بيتاً دافِئاً رغمَ كل شيءٍ مرٌ مذاقهُ شربناهُ سوياً ، قلةَ مالَ أبي ، و مرضَ أخِي - رحمةُ اللهِ عَليه – و موته ، بقينا نحنُ الثَلاثة ، و عُمِرَ البيتَ بضَحِكاتٍ مُلونةٍ ، كانَ الربيعُ يَنزفُ مُفرداتِ الأرضِ الدَافئةِ علينا ، و في يومٍ ما جاءَ وقتُ المحرقةَ القَلبيةَ بِداخلي ، دخلَ قَريتنا بعضَ المُحتلونَ و لكنَ مخططهمْ فشل ، و لكنَ من سُوء حظي البيتَ الوَحيد الذي دخلوهُ كانَ بيتنا ، كنا نرتشفُ الشايَ معاً ، دُقَ البابُ بشدةٍ ، كانَ أبي يحب السكرَ كثيراً فقالَ لأمي : " ضَعي ثلاثةََ مَلاعق من السكرِ لحين أرى مَنْ الطَارق " ، لكنَ أبي لم يعدْ ليغازلَ الشاي و يتغنى بهِ و يقولَ لي و هو يرتشفهُ : " أنتِ أغلى شيءٍ يا قرةَ عَيني في دنْياي أُحبُ في خصلاتِ شَعركِ معزوفةَ النَاي " ، ذَهَبَتْ أُمي لترى ما الأمَر ، رَأَتهُ ميتاً على بابِ بيتنا ، ماتتْ بقَلبِها و خُدِشَتْ روحها ، جُنَتْ بعدَ ذلك ، و بِعْتُ أنا البيت ، و أصبحَ هَمها هوَ أَن يَأكلَ جميعهم السكرَ قبلَ موتهمْ ، كي تُرضي أبي – حسبَ ظنِها - ، و عندما جئتُ إلى هُنا رَأيتها ، كنتُ أودُ أن أعيدها إلى صَوابها لكن لمْ أنجحْ هيَ لم تتذكرني ، صَدقيني شعرتُ بكلِ شيءٍ جميلٍ معكِ لكنني كنتُ أحتاجُ إلى أم ، إلى أب ، إلى أخ ، إلى بيتٍ و حتى إلى سكر ! ، و إلى نَفسي المتشَردةِ بينَ المَكانِ و المَكانِ ، و ها أنا ذا سأموتُ و سأتحولُ إلى سكرٍ . "
أَمْطَرتْ عيناي دُمُوعاً مُعَذَبَة و قٌلْتُ :
" أنتِ أَعزُ صَدِيقَةٍ بِالنسبةِ لي ، و مِنَ المُفْتَرضِ أن أكونَ أنا لكِ كذلك ، لماذا لمْ تُخبريني بِهذا من قَبْل ؟ "
صًرختْ : " كانَ لاُمي صديقةً غاليةً على قلبِها كَمَا أنتِ لي ، لكنها لمْ تحاولَ أن تساعدَ أمي للعودةِ إلى الرشدِ ، بل ساعَدتها على الجُنُونِ ، أعْطَتها طرقَ صنعِ تماثيلِ السكرِ ، فأصْبَحتْ اُمي بائعةَ السكر ، بل بالأحرَى قَاتِلة "
و فَجأةً تحركَ الظلُ الذي كانَ خلفها و بَدَأَتْ روحُ سارة بالذَهَابِ إلى السماءِ ، لَقَطُتها بين ذراعيّ بكلِ لطفٍ و دُموعي غَمرَتْ المكانَ . رددَتْ سارة : " لن أتحولَ إلى سكرٍ فأنا سأموتُ بين يديّ صديقتي التي أُحبها ، لن أتحولَ إلى سكرٍ فأنا سأموتُ بين يديّ صديقتي التي أُحبها ، لن أتحولَ إلى سكرٍ فأنا سأموتُ بين يديّ صديقتي التي أُحبها "
و ذَهبتْ الروحُ المُقَدسةُ إلى رَبِها .. ماتت سارة صرختُ بِأعلى صوت : " سارة ... سارة .. سارة " ، و تدرجَ ارتفاعُ الصَوتِ و اندثرَ باندثارِ القمرِ ليلةَ بَدْرِهِ ..
دُفِنَتْ في بيتِ صداقتنا ، ودعْتُها بحبٍ تعمُ رائِحَتَهُ حَصى دَفاتِرَ أشْعَاري ، و صلاةِ صداقةِ العُمرِ ، و ذَهَبتُ إلى بائعةِ السكرِ و أنا أحْمِلُ قدماي خشيةَ الوقوعِ ، و عندما رأتني ضَحِكَتْ كالشَيطان قائلةً قَبْلَ أن أتكَلم : " هل صدقتِ قصةَ موتِ الناسِ بالسكرِ أيتها الحَمقاء ، كل ما أَرَدتهُ هو نشرُ إشاعةٍ بِذلك و قِطعةُ سمٌ في السكرِ الذي أكلتهُ سارة عِندي ، ههه حتى لا يُصَدِقَكِ الناسُ يا غَبية "
قلتُ لها : " و مَا الذي استفدتيه مِن قَتلِ زحفِ الربيعِ يا عَديمة الرَحمَْةِ "
قالتْ بكلِ ثقةٍ و حُزن : " سَعادةُ سارة "
ضحكتُ حزناً : " سعادةُ سارة ! ، لا بد مِن أنكِ مجنونة ! "
قالتْ : " لقد كانتْ الأغلى لأباها في هذهِ الدُنيا ، لَقد أسْعَدتهُمَا مَعاً لَقد بَعَثتُ لهُ سارة "
بَصَقتُ عليها بِنَظرةٍ تَملؤها القاذورات و قلت : " سارة و أباها سيذهبانِ إلى النعيمِ أما أنتِ فاذهبِ إلى الجحيمِ "
ثم أدرتُ ظهري و مَشَيتُ خطوتين ثم قُلتُ : " هل تعْرِفين ؟ "
أجابتْ بنفسِ الثقةِ و الغرور و كَأنَ شيئاً ما لم يكن قَدْ أَثَرَ فيها : " لا ، ههه و لكن تَهمَني المعرفة "
قلتُ بكلِ قهرٍ : " لستُ من قلةٍ يا لعينةَ أكره السكرَ " .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق